المقدمة :
في فترة من فترات الترف الفكري في عهد
الدولة العباسية أثير في أوساط المسلمين سؤال شغل علماء المسلمين وحكامهم سنوات
طويلة واختلفوا فيه اختلافا كبيرا حتى أنهم كفروا بعضهم بعضا، وهذا السؤال هو: هل
القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ والذي أثار هذا السؤال كما تقول بعض المصادر هو رجل
يهودي تظاهر بالإسلام اسمه شاكر الديصاني. ونظرا لأن هذه القضية ليست من أصول
الدين ولا ينبني عليها عمل فسأكتفي فيها بذكر بعض الملاحظات
والتعليقات، ومن أراد مزيدا من التفصيل فيها ليعرف أقوال العلماء ووجه الخلاف فيها
فليرجع إلى كتاب الحق الدامغ للشيخ أحمد الخليلي
أرآؤ الجبرية عن خلق القرآن :
قول
بخلق القرآن وهو أول من تكلم به أمة محمد بدمشق. أما قوله بخلق القرآن فمعناه أن
القرآن مخلوق الله , وإذا كان مخلوق فإنه يكون حديثا , وأيضا إذا كان مخلوقا لا
يكون كلام الله. ثم ذهب إليه أيضا المعتزلة .
إنه
قال بالتعطيل فمعناه إن الله لايصح أن يتصف بصفات يتصف بها البشر كا الكلام , فلا
يقال متكلما كما لا يقال الله أبكم , فلا يقال " الله متكلم" كما لا
يقال " الله أبكم" لأن كلا الوصفين يصح أن يتصف بهما البشر . وأظن أن
قوله بخلق القرآن نشأ نتيجة لرأيه فى إنكار صفة الكلام , كما ذهبنا إلى ذلك عند
الكلام على جهم . وسيذهب إلى هذا الرأي أيضا المعتزلة , وإن كان تعليلهم خلاف هذ
التعليل , حيث أنهم يرون أن القرآن حادث ولا يصح أن يتصف الله سبحانه بالحوادث ,
كما لا يصح أن يكون القرآن قديما لأنه لا قديم إلا الله وسنرى هذا عند الكلام على
المعتزلة إن شاء الله .[1]
رأي القدرية :
إن رأي القدرية كرأي
جهم فى أن القرآن مخلوق وليس قديما .
أرآؤ المعتزلة :
كلام
الله محدث أم قديم ؟ من أكثر الموضوعات التي أثرت اختلافا عميقا بين المعتزلة من
جهة والحنابلة من جهة أخرى زمن المأمون والمعتصم محنة الإمام أحمد بن حنبل , فضلا
عن أنه ربما ترجع تسمية علم الكلام إلى هذه المشكلة (أكلام الله : حادث أم قديم؟).
الكلام
لدى المعتزلة – شأنه فى ذلك السمع والبصر- ليست صفة من صفات الذات , فكلام الله –
بما فى ذلك القرآن – ليس أزليا , إذ كيف يكون كذلك وفى القرآن أمر ونهي ووعد ووعيد
وكل ذلك يقتضى وجود المأمور أو المنهى أو الموعود , ولوكان الكلام صفة أزلية ليصبح
القرآن قديما ولشارك الله فى الإلهية , ذلك أن القديم صفة ذات للألوهية , فكل قديم
فهو إله , أننا نجد القرآن صفات لايتصف بها القديم , فالقرآن يتجزأ ويتبعض , فيقال
ثلثة وربعة ونصفه ..., وهو حروف منظومة وأصوات مقطوعة , وهو محكم مفصل : (كتاب
أحكمت آياته ثم فصلت)[2]
ومن ثم فهو مركب , وهو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ,كل ذلك يوجب كونه
مخالفا للقديم كما نجد القديم مخالفا له من حيث كونه سبحانه عالما حيا قادرا سميعا
بصيرا , كل ماكان مخالفا للقديم فهو محدث .[3]
وإذا
كان فى القرآن أمر ونهي ووعد ووعيد , فإن من حكم الأمر أن يصادف مأمورا ,فلا يصح
أن تصدر "أقيموا الصلاة " ولم يكن فى الأزل من يقيمون الصلاة , إذ محال
أن يكون المعدوم أمورا ومن ثم محال أن يكون أمر الله أزليا , أنه لا بد أن يختص
الكلام بمحل , ويستحيل وجود كلام لا فى محل كما يستحيل وجود لون لا فى جسم , ومن
ثم محال أن يكون كلام الله قديما .[4]
وفى
القرآن خطاب إلى موسى مخالف للخطاب إلى محمد , ومناهج الكلامين مع الرسولين مختلفة
, ثم أن أحوال الأمتين – أمة محمد وموسى – مختلفان , والقصة التي جرت ليوسف وأخوته
غير القصة التى جرت لآدم ونوح وإبراهيم , وإذا كانت هذه الأحوال مختلفة استحال أن
يكون الكلام صفة أزلية , وإلا لحقت ذاته التعبير اللازم عن تغيير المحدثات .
وقد
أجمع المسلمون على أن القرآن كلام الله , واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة
, وكليمة مجموعة ولها مفتتحة ومختتمة , وأجمعت الأمة على أنه بين أيدينا , تقرأه بألسنتنا
ونحسه بأيدينا ونبصره بأعيننا ونسمعه بأذانينا , ومحال أن يكون هذا كله وصفا لصفات
الله .
إلى
جانب هذه الأدلة العقلية قدم المعتزلة أساند تقية أهمها قوله تعالى : (إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[5] ,
ثم وصف الذكر – أي القرآن – بأنه محدث . (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث)[6] ,
(وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث)[7] ,
وكل محدث فهو مخلوق , والقرآن قد سبقه كتب منزلة (ومن قبله كتاب موسى)[8]
وما تقديمه غيره يلزم حدوثه ولا يكون قديما .
والله
قادر على أن يغير القرآن كله أو بعضه أو يبدله بغيره أو يأتى بمثله أويزيد فيه (قل
لوكان البحر مدادا لكلمات ربه لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بثمله
مدادا)[9] ,
أو ينسخ من آياته (ما ننسخ من آية )[10]
وما يتبدل ويتغير فهو محدث .
على
أنه لما كان لفظ الخلق لم يرد صراحه فى كتاب الله فى وصف القرآن "فقد استند
المعتزلة إلى قوله الرسول : " إن الله خلق الإنسان عربيا فى كلامه ."
ومع
أن موقف المعتزلة من مشكلة "كلام الله" أو "خلق القرآن" فرع
من تصورهم للتوحيد , ذلك أن انكار اعتقاد بخلق القرآن اثبات قدمه , وكل ماهو قديم
فهو إله , فانفرد الله بالألوهية يقتدى انفراده بالقدم والقول بحدوث القرآن أو
خلقه , فالمشكلة من الناحية الكلامية البحتة ما كانت لتقضى تلك النتائج الخطيرة
التى أثرها فى تاريخ الفكر الإسلامى بعامة وعلم الكلام بخاصة , فهي لاتزيد أهمية
المسألة التشبيه والتجسيم أو مسألة رأية الله يوم القيامة , ولكنها اتخذت طابعا
مشيرا حين اختلطت بالسياسة , ولا شك أن المعتزلة بغداد وعلى رأسهم أحمد بن أبى
داوود وثمامه بن الأشرس دفعوا المسألة على هذا النحو حين استعدوا للدولة فى
التطبيق مذهبهم بالقزل بخلق القرآن , وأرادوا أن يجعلوها عقيدة رسمية للدولة حيث
أن كل مخالف لمذهبهم وكل معارض لها يتبعها بحكم القتل والحبس والجلد وقطع الأرزاق
, حتى أضحت محنه للحنابلة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الأمر الذى أدى إلى رد فعل عنيف من كراهية العامة المعتزلة ,
فما أن دارت الدائرة عليهم فى عهد المتوكل بعد أن كانت الوازرة لهم فى عهد المأمون
حتى كانت التيار المعادى للمعتزلة عارما فانتهى القضاء عليهم كحركة فكرية مستقلة
عن سائر الفرق , وأحرقت كتبهم وكاد يقتضى على كل أثر لهم لولا أن اختضنت فكرهم فرق
الشيعة وعلى رأسها الزيدية .
ولكن
دفع المعتزلة إلى هذا التعصب الذميم الذى وصم حركتهم كلها يسبب هذه المشكلة وصمة
تتنافى مع كونهم أصحاب نزعة عقلية لا تعريف الجمود ؟ وماذا فى الإعتقاد بأن
القرآن غير المخلوق من أثارة تستحق استداء
الدولة ؟ ولماذا اختص المعتزلة القول بخلق القرآن لفرضها عقيدة كل العلماء والعامة
حين دامت لهم الدولة ؟
أما
اصرار المعتزلة فى فرض الاعتقاد بخلق القرآن على المسلمين : علماءهم وعامتهم فيمكن
أن نكشف سببه من الكتب التى أرسله الخليفة المأمون إلى عماله بإبعاد من وزيره
المعتزلى أحمد بن أبى داوود فقد جاء كتابه الثالث إلى عالمه على بغداد اسحق بن إبراهيم :
ومما بينه أمير المؤمنين بروايته , وطالعه بفكره , فتبين عظيم خطره , ماينال
المسلمون من القول فى القرآن ... واشتبابه على كثير منهم حتى حسن عندهم وتزين فى
عقولهم أن لايكون مخلوقا ... وضاهوا به قول النصارى فى ادعائهم فى عيسى بن مريم
أنه ليس بمخلوق إذا كان كلمة الله . خشي المعتزلة غذا أن يضاهى المسلمون – إذ
يعتقدون بقدم كلام الله أو بالأخرى قدم القرآن – إذ يعتقدون بقدم كلام الله أقنوم
الابن – ومن ثم ألوية المسيح , لقد توهم المعتزلة أن القول بقدم القرآن إنما يترتب
عليه أن يحل القرآن فى نفوس المسلمين مكانة المسيح كم النصارى إذ كلاهما : القرآن
والمسيح كامة الله .
ولم
يكن المعتزلة وظروف فرضهم الاعتقاد بخلق القرآن عقيدة رسمية ومفهوما تاما من علماء
سائر الفرق فضلا عن العامة , ولم يلمس المعتزلة فى سبيل دعوتهم الحكمة أو الموعظة
حسنة وإنما التمسوا أسطورة الدولة , ولكن ماذا عن الموقف المعارض ؟ لماذا تشبث
الحنابلة فى التصدى عن المعتزلة ؟ ولماذا تبنوا القول بأن القرآن كلام الله غير
مخلوق ؟.[11]
رأي الإمام أحمد فى مشكلة القرآن :
الأول : القرآن كلام الله ووحى الله
إن
المعتزلة والجهمية أنكروا الصفات ثم أنكروا الكلام , فذاهبوا على أن الله لم يكلم
موسى ولم يتكلم , إنما كونه شيئا فعبر عن الله , وخلق صوتا فأسمعه . ذلك لأن الكلام
لا يكون إلا بجارحة , إلا من جوف ولسان وشفتين , والجوارح عن الله منفية .
وقال
الإمام أحمد[12]
: "هل يجوز أن يكون الكون غير الله , إذ قال :( يموسى ◌ أنا ربك)[13] ,
ويقول (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى)[14] ,
إنى أنا ربك ؟ فمن زعم غير ذلك قد ادعى الربوبية . ويقرر الإمام أحمد أنه لوكان
الأمر كما ذكر المعتزلة والجهمية , فإن ذلك الكون كان ينبغى أن يقول : (يموسى إنى
أنا الله رب العالمين)[15] ,
والآيات واضحة فى أنه ليس ثمة مكون وإنما الله هو نفسه المتكلم (وكلم الله موسى
تكليما)[16] ,
(ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)[17] ,
(إنى اصطفيتك على الناس برسلتى وبكلمى)[18] ,
ثم حديث الرسول : "ما منكم أحد إلا سيكمله ربه ليس بينه وبينه ترجمان ."[19]
أما
أنه لا بد أن يكون الكلام بجوارح فهذا طبعا خطأ , لأن الله قال للسماوات والأرض :
(ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)[20] ,
فهل للسموات والأرض جوف ولسان وسفتان وأدوات ؟ أوقال الله : (وسخرنا مع داود
الجبال يسبحن)[21]
أتراها سبحت بجوف وفم وشفتين , أن الله أنطقها كيف شاء , كذلك تكلم كيف شاء بدون
جوارح والآيات , لأنه " ليس كمثله شيء ".
يقرر
الإمام أحمد عقيدة المعتزلة وهم من أهل التشبيه بقوله : " تقول إن الله لم
يزل متكلما إذا شاء , ولا تقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام . " ولا
تقول : إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم , ولا تقول إنه قد كان ولا عظمة له
حتى خلق لنفسه عظمة ."[22]
وبهذالرد
الإيجابى استطاع الإمام أن يبرهن للناس بأن الله كلم موسى حقيقة , وكلامه ليس
بمخلوق . ثم أن الجهمية مع منهجهم الجدلى أثاروا مسألة جديدة وهي : هل القرآن هو
الله أو غير الله ؟ والجهم يذهب مع منطقة فى تنزيه الغالى يقرر أن القرآن غير الله
ولكن الإمام أحمد يرى أن الله جل ثناءه لم يقل غيري , وقال هو كلامى , فلذا سميناه
باسم سماه الله به فقلنا كلام الله .
وإن
الله لم يسم كلامه خلقا , ولم يسو بين القول والخلق بل قال : (ألا له الخلق
والأمر)[23]
فوضع تحت "له الخلق" كل شيء مخلوق , ثم ذكر الله " الأمر" وهو
القول , فأمره هو قوله يقول الله : (إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين ◌
فيها يفرق كل أمر حكيم ◌)[24]
ثم قال أن القرآن هو (أمر من عندنا)[25] ,
وقال : (لله الأمر من قبل ومن بعد)[26]
يقول : الله القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق , فالله إذن يخلق ويأمر ووقوله غير
خلقه[27] ,
وقال : (ذلك أمر الله أنزله إليكم)[28]
وقال :(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)[29]
ثم يحاول الإمام أحمد "أن يثبت أن القرآن ووحي الله , وذلك بطريقة التفسير
آية القرآن ," فيذكر الآية : (والنجم إذا هوى ◌ ما ضل صاحبكم وما غوى ◌ وما
ينطق عن الهوى ◌ إن هو إلا وحي يوحى ◌)[30]
ويرى أن قريشا قالوا : "إن القرآن شعر , وأنه أساطير الأولين وأنه أضغاث
أحلام , وأن ومحمدا يقول من تلقاء نفسه وتعلمه من غيره , فأقسم الله بالنجم
"هو" يعنى القرآن إذا نزل , قال : "والنجم إذا هوى ◌ ما ضل صاحبكم
"محمد" وما غوى ◌ وما ينطق عن الهوى " يقول : إن محمد لم يقل هذا ,
القرآن من تلقاء نفسه فقال "إن هو" يعنى القرآن "إلا وحي
يوحى" , فأبطل الله أن يكون القرآن شيئا غير الوحي لقوله : "إن هو إلا
وحي يوحى" ثم يقول : "علمه" يعنى علم جبريل محمد صلى الله عليه
وسلم وهو شديد القوى , ذو مرة فاستوى إلى قوله (فأوحى إلى عبده ما أوحى) فسمي
القرآن وحيا ولم يسمه خلقا .[31]
ويظهر
لنا من خلال هذه النصوص مدى التزام الإمام وتوقيفه فى إثبات أن القرآن كلام الله
ووحيه وليس بخلق الله . وأنه بذلك ينهج منهجا خاصا , وهو يفسر النصوص على وجه صحيح
, وبينهما وفقا لصحيح المنقول وصريح المعقول .
الثانى : مشكلة خلق القرآن
كان
الجهمية فى البداية ينكرون أن القرآن كلام الله , ولما ضعفت أدلتهم أمام حجج الإمام
أحمد , اعترفوا بأنه كلام الله , ولكنه مخلوق , وذلك يتأويل الآية : (إنا جعلنه
قرءانا عربيا لعلكم تعقلون)[32]
فزعم الجهمى أن "جعل" بمعنى "خلق" فكل مجعول هو مخلوق . وأنه
بذلك ادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتاج بها من أراد أن يلحد فى تنزيلها ويبتغى
الفتنة فى تأويلها ."[33]
ولكن
الإمام أحمد يرد هذا الادعاء بتفسير صحيح , ويلعق دائما بأن القرآن "غير
مخلوق" . وأنه قد عانى المحنة فى سبيلها , فقال والآيات : (الذين جعلواالقرآن
عضين)[34]
(وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إنثا)[35]
هنا "جعل" يعنى التسمية فى الآية (يجعلون أصابعهم فى أذانهم)[36]
فمعنى جعل هنا فعل .
أما
جعل بالنصبة لله , فترد على معنين – معنى خلق ومعنى غير خلق , أم شواهد المعنى
الأول من الآيات فالآية (الحمد لله الذى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور)[37] يعنى
خلق الظلام والنور وقال تعالى : (وجعل لكم السمع والأبصر)[38]
أى خلق السمع والبصر ... إلخ .
أما
معنى غير خلق – كقول الله : (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة)[39]
لايعنى ما خلق من بحيرة ولا سائبة . وقوله لإبراهيم : (قال إنى جاعلك للناس إماما)[40]
لا يعنى أنى خالقك للناس إماما , لأن خلق إبراهيم تقدم قبل ذلك , وقال إبراهيم :
(رب اجعل هذا البلد ءامنا)[41]
قال إبراهيم (رب اجعلنى مقيم الصلوة)[42]
ولا يعنى إطلاقا خلفنى مقيم الصلاة , والآية (يريد الله ألا يجعل لهم حظا فى
الآخرة ولهم عذاب عظيم)[43]
ومثل هذا كثير فى القرآن .
وقد
استطاع الإمام أحمد فى كتابه " الرد على الزنادقة والجهمية" أن يثبت أن القرآن
ليس مخلوقا فى عبقرية نادرة . كثيرة وذلك باستناعة من النصوص الدينية . ولم يكتفى
بالإحاطة بظاهر القرآن فقط , بل بمعانيها العميقة وما وراء المعانى من المفاهيم
والدلالات .
وعلى
سبيل المثال استطاع الإمام بقدرته الفائقة أن يبين أن الله تعالى إذا قال
"جعل" بأنها تأتى على معنيين : معنى خلق ومعنى غير خلق بل فعل .
وحين
قال الله : (إنا جعلنه قرءنا عربيا) يقول جعله جميلا , وعلى معنى فعله فكلا من
أفعال الله غير معنى خلق , وقال فى سورة الزخرف : (إنا جعلنه قرءنا عربيا لعلكم
تعقلون ◌)[44]
وقال لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين (فإنما يسرنه بلسانك)[45]
فلما جعلى الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم كان ذلك فعلا من
أفعال الله تبارك الله وتعالى جعل القرآن به عربيا مبينا وليس كما زعموا معناه :
أنزلناه – بلسان العرب . وقوله بيناه يعنى : هذا بيان لمن أراد الله هداه .[46]
وجدير
بالذكر أن الجهمية فى خلق القرآن قد يستخدمون الحديث حيث يقول : جاء فى الحديث :
"أن القرآن يجئ فى صورة الشاب الشاحب فيأتى صاحبه فيقول : هل تعرفه ؟ فيقول
له : من أنت : فيقول : "يارب فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه
الأحاديث" . فرد الإمام هذا الادعاء بقوله : القرآن لا يجيء إلا بمعنى أنه قد
جاء من قرأ (قل هو الله أحد ◌)[47]
فله كذا وكذا . إلا ترون أن من قرأ
"قل هو الله أحد" لايجيئه إلا بثوابه نقرأ القرآن فيقول يارب
ويجيء ويتغير من حال إلى حال . وإنما معنى أن القرآن يجيئ إنما ثواب القرآن :
"يارب"[48]
ومما
يؤكد ادعاء الجهمية بخلق القرآن ماذكر السجستانى فى كتابه " مسائل الإمام
أحمد بن حنبل "رجل يقول التلاوة مخلوقة , ألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن ليس
بمخلوق , ماترى فى مجانبته ؟ وكيف الجواب فيه ؟ قال (الإمام) : هذا بجانب , وهو
فوق المبتدع وما أراه الاجتهاد , وهذا كلام الجهمية , القرآن ليس بمخلوق , قالت
عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هو الذى أنزل عليك
الكتاب منه ءايت محكمات هن أم الكتب وأخر متشابهات)[49] ,
قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه
فاحذروهم فإنهم الذى عنى الله , فالقرآن ليس بمخلوق .[50]
ولكى
نتأكد من صحة موقف الإمام أحمد من القرآن , ينبغى أن نذكر رأيه فيه الذى نقله ابنه
لأبى الفضل حيث قال : "قال أبى أسماء الله فى القرآن والقرآن من علم , وعلم
الله ليس بمخلوق والقرآن كلام الله ليس بمخلوق على كل وجه , وعلى كل جهة وعلى أي
حال ."[51]
وعزز
الإمام هذالقول مستدلا بالآية القرآنية : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى
يسمع كلم الله)[52]
, وقال : (ألا له الخلق والأمر)[53]
فأخبر بالخلق , ثم قال (والأمر) فأخبر أن الأمر غير الخلق , وقال عز وجل : (الرحمن
◌ علم القرآن ◌ خلق الإنسن ◌ علمه البيان ◌)[54]
فأخبر أن القرآن من علمه . قال تعالى : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع
ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من
الله من ولى ولانصير ◌)[55]
وقال : (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك.وما أنت بتابع
قبلتهم.وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن التبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك
إذا لمن الظالمين ◌)[56]
وقال تعالى : (وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهوآءهم من بعد ماجاءك من
العلم مالك من الله من ولي ولا واق ◌)[57]
فالقرآن من علم الله , وفى هذه الآيات دليل على أن الذى جاءه القرآن , لقوله :
(ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذى جاءك من العلم)[58]
ومن هنا كان الإمام يقرر دائما : "القرآن كلام الله غير الله مخلوق ."[59]
والذى
دفع الإمام إلى إصراره على هذا الرأى أن هذه المشكلة تتعلق بصفات الله , والبحث عن
الصفات متصل بالتوحيد ولا يمكن الكلام عنه إلا بما بين الله فى كتابه وعلى لسان
رسوله . وأما الكلام عنها بالذى لم يرد فيه نص فاعتبره الإمام من البدعة فى الدين
. ولذا فإنه يثبت دائما إن القرآن كلام الله حقيقة , وكلام الله حقيقة , وكلامه
علمه وعلمه صفاته , ولا يفصل أبدا بين الله وصفاته وأسماؤه مخلوقة .
وقد
نقل عن ابن الجوزي قوله فقال : "وأمركم ألا تؤثروا على القرآن , فإنه كلام
الله , وما تكلم الله به فليس بمخلوق , وما أخبر به عن القرون الماضية فغير مخلوق
, وما فى اللوح المحفوظ فغير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر بالله , ومن لم يكفرهم
فهو كافر ."[60]
رأي ابن تيمية فى قضية القرآن كلام الله
رأي
شيخ الإسلام بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق , منه بدأ وإليه يعود وأن
الله تكلم به حقيقة . أن هذا القرآن الذى أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم كلام
الله حقيقة لا كلام غيره . ولا يجوز اطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أوعبارة
, بل إذا قرأه الناس أوكتبوه فى المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى
حقيقة . فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلا من قاله مبلغا
مؤديا . وهو كلام الله حروفه ومعانيه , وليس كلام الله الحروف دون المعانى , ولا
المعانى دون الحروف .
وأوضح
الدكتور صالح بأن القرآن منزل غير مخلوق , لأنه صفة من صفاته , أضافه إلى نفسه
إضافة الصفة إلى موصوفها , وصفاته غير مخلوقة فكلامه غير مخلوق . وقد خالف بهذ
الجهمية حيث يقولون إن الله لايتكلم وإنما خلق كلاما فى غيره وجعله يعبر عنه ,
فإضافة الكلام عندهم إلى الله مجاز لا حقيقة , لأنه خلق الكلام فهو متكلم بمعنى
خالق الكلام فى غيره . فإنه لايعقل أن يسمى متكلما إلا من قام به الكلام حقيقة ,
فكيف يقال – قال الله والقائل غيره . وهذا القول باطل مخالف للأدلة السمعية
والعقلية .
الدراسة النقدية :
إن
الجبرية والمعتزلة يرون بأن القرآن مخلوق , وإذا كان مخلوقا فيكون حديثا , وإذا
كان القرآن مخلوقا لا يكون كلام الله , وهذا رأي باطل . ورأي القدرية أيضا باطل
لأنه يرى بأن القرآن مخلوق وليس قديما . ورأي الأرجح عندي كرأي الإمام أحمد بن
حنبل وهو أن القرآن كلام الله ووحيه وليس مخلوقا .
الاستنتاج
:
نرجع
إلى تعريف القرآن , أن القرآن هو كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم بوسيلة جبريل المتعبد بتلاوته والمنقول إلينا بالتواتر المفتتحة بسورة
الفاتحة ومختتمة بسورة الناس , وليس القرآن من مخلوق الله , وكان آلة كلام الله
ليس كمثل مخلوقه لأن الله ليس كمثله شيء .
مصادر البحث
1.
ابن
الجوزى , مناقب الإمام أحمد بن حنبل , بيروت : دار الأفاق الجديدة , 1977.
2.
الأصفهانى
, كتاب حيلة الأولياء وطبقة الأصفياء .
3.
الذهبى
, محمد حسين , ترجمة الإمام أحمد , حلب : دار الوعي , دون تاريخ.
4.
أحمد
بن حتبل , الرد على الزنادقة والجهمية , القاهرة : مكتبة السلفية , 1980.
5.
السجستانى
, أبو داود سليمان بن الأشعث وعمر الطالبى , عقائد السلف , الإسكندرية :
منشأة المعرفة.
6.
______, مسائل الإمام أحمد بن حنبل , ضمن النشر ( علي سامي
) , نشأة الفكرى الفلسفى فى الإسلام , القاهرة : دار المعارف , 1981.
7.
القاضى
عبد الجبار , المغنى فى أبواب العدل والتوحيد , القاهرة : وزاردة الثقافة
المصرية , د.ت.
8.
صالح
, أبو فضل , سيرة الإمام أحمد بن حنبل , تحقيق د. فؤاد عبد المنعم ,
الإسكندرية : مؤسسة الجامعة , 1981.
[48] . أبو داود سليمان بن الأشعت السجستانى الحافظ ,
مسائل الإمام أحمد بن حنبل , ضمن عقائد السلف للنشار والطالبى , ص :104
[51] . أبو الفضل صالح , سيرة الإمام أحمد بن حنبل
, تحقيق د. فوائد عبد المنعم أحمد , (الإسكندرية المؤسسة الجامعة , 198) ص :
73
[59] . الذهبى , ترجمة الإمام أحمد , (د.م:
دار الوعي , د.ت.) ص :81 , وكتاب حيلة الأولياء وطبق الأصفياء , للأصفهانى , ص :
218-219
0 komentar:
Posting Komentar