ذكر المؤلفات وأقوال العلماء فى هذا الشأن
أفرده بالتأليف العلامة أبوجعفربن زبير شيخ أبي
حيان في كتاب سماه ((البرهن في مناسبة ترتيب سورالقرآن )) , ومن أهل العصر الشيخ
برهانالدين البقاعىّ[1]
في كتاب سماه ((نظم الدرر في تناسب الآى والسور )) وكتاب الذى صنعته في
أسرارالتنزيل كافل بذلك , جامع المناسبات السوروالآيات : مع ماتضمنه من بيان وجوه
الإعجاز وأساليب البلاغة , وقد لخصت منه مناسبات السورخاصة في جزاء لطيف,سميته ((
تناسق الدرر في تناسب السور )) .
وعلم
مناسبة علم شريف , قلّ اعتناء المفسرين به لدقته . وممن أكثرفيه الإمام فحرالدين ,
وقال في تفسيره : أكثر لطا ئف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط .
وقال
الشيخ عزالدين عبدالسلام : المنا سبة علم حسن , لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام
أنيقع في أمرمتحد مرتبط أوله بآخره , فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع في ارتباط ,
ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدرعليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث ,
فضلا عن أحسنه , فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة , في أحكام مختلفة , وشرعت
لأسباب مختلفة , وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض .
وقال
الشيخ ولي الدين الملوى : قدوهم من قال : لا يطلب للآى الكريمة مناسبة , لأنها على
حسب الوقائع المفرقة . و فصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا , وعلى حسب
الحكمة ترتيبا وتأصيلا , فالمصحف على وفق مافى اللوح المحفوظ , مرتبة سوره كلها
وآيا ته بالتوقيف , كما أنزل جملة إلى بيت العزة , ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه
الباهر , والذى ينبغى في كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما قبلها
أومستقلة , ثم المستقلة , ماوجه مناسبتها لما قبلها ؟ ففي ذلك علم جمّ , وهكذا في
السور , بطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له .
وقال
الإمام الرازىّ في سورة البقرة : ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة , وفي بدائع
ترتيبها , علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه , وشرف معانيه , فهو أيضا
بسبب ترتيبه ونظم آياته , ولعل الذين قالوا : إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك ,
إلا أنى رأيت جمهور المفسرين معرضين على هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار ,
وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل : والنجم
تستصغر الأبصر صورته والذنللطرف لا
للنجم في الصغر[2]
البحث
:
تعريف المناسبات:
المناسبة فى اللغة
المشاكلة والمقاربة , ومرجعها فى الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينها , عامّ أوخاصّ
, عقلىّ أو حسىّ أو خيالىّ أو غيرذلك من أنواع العلاقات أوالتلازم الذهنىّ ,
كالسبب والمسبب , والعلة والمعلول , والنظيرين والضّدّين , ونحوه[3] .
وفائدته جعل أجزاءالكلام
بعضها آخذا بأعناق بعض , فيقوى بذلك الإرتباط , ويصير التأليف حاله حال البناء
المحكم المتلائم الإجزاء , فنقول : ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهرالإرتباط
, لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح . وكذلك إذا ماكانت الثانية
للأولى على وجه التأكيد أو تفسير أو الإعتراض أوالبدل , وهذا القسم لا كلام فيه .
وإما
ألاّ يظهرالارتباط , بل يظهرأن كل جملة مستقلة عن الأخرى , وأنها خلاف النوع
المبدوء به .
فإماأن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف
المشتركة فى الحكم أولا , فإن كانت معطوفة فلا بدأن يكون بينهما جهة جامعة على
ماسبق تقسيمه كقوله تعالى :( يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها )[4] ,
وقوله : ( والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون )[5] ,
للتضادّ بين القبض والبسط , والولوج والخروج , زالنزول والعروج , وشبه الضادّ بين
السماءوالأرض . ومما الكلام فيه التضادّ ذكر الرحمة بعد ذكرالعذابوالرغبة
بعدالرهبة , وقدجرت عادت القرآن إذاذكرأحكاما ذكربعدهاوعداووعيدا , ليكون باعثاعلى
العمل بما سبق , ثم يذكر آيات التوحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهى , وتأمل
سورة البقرة والنساء والمائدة تجد , كذلك .
وإن
لم تكن معطوفة , فلا بدّ من دعامة تؤذن باتصال الكلام , وهى قرائن معنوية تؤذن
بالربط .
وله
أسباب :
أحدهما
: التنظير , فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء , كقوله : ( كما أخرجك ربك
من بيتك بالحق ) عقب قوله : (أولئك هم المؤمنون حقا )[6] ,
فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضى لأمره فى الغنائم على كره من أصحابه , كما مضى لأمره
فى خروجه من بيته لطلب العير أوللقتال وهم له كارهون , والقصد أنّ كراهتهم لما
فعله من قسمة الغنائم ككراهتهم للخروج , وقد تبين فى الخروج الخير من الظفر والنصر
والغنيمة وعزّالإسلام , فكذا يكون فيما فعله فى القسمة , فليطيعوا ما أمروا به
ويتركوا هوى أنفسهم.
الثانى
: المضادّة , كقوله فى السورة البقرة : (إنّ الذين كفرواسواء عليهم...)[7]
الآية , فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن , وأنّ من شأنه الهداية للقوم
الموصوفين بالإيمان , فلمّا أكمل وصف المؤمنين عقّب بحديث الكافرين , فبينهما جامع
وهمىّ باالتضادّ من هذالوجه , وحكمته التشويق والثبوت على الأول كما قيل :((
وبضّدها تبين الأشياء)) .
الثالث
: الاستطراد , كقوله تعالى : ( يابنى آدم قدأنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم
وريشاولباس التقوى ذلك خير )[8] ,
قال زمخشرىّ : هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد , عقب ذكر بدوّ السوءات وخصف
الورق عليهما , إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس , ولما فى العرى وكشف العورة من
المهانة والفضيحة , وإشعارا بأنّ السترباب عظيم من أبواب التقوى .
أهمية
معرفة المناسبات[9]
:
قال
الإمام فخرالدين الرازى فى نفسير سورة البقرة : ومن تأمل لطائف نظم هذه السورة وفى
بدائع ترتيبها علم أن أثر القرآن كما أنه معجز أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته , ولعل
الذين قالوا : إنه نعجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهورالمفسرين معرضين
عن هذه اللطائف غير منتهين لهذه الأسرار .
هذا
زمن قرأفى تفسير ((فى ظلال القرآن)) للشهيد سيد قطب رحمه الله فإنه سيدرك مدى
اهتمامه بهذاالنوع من المناسبات بين السور والآيات وعلى نحو قد لا يكون سبق إليه
من قبل ,حيث يقدم للسورةبمقدمة شاملة يذكر أهم موضوعاتها وحسن ترابط معانيها ودروسها
, ثم يقسم السورة إلى دروس بحسب قوة التناسب بين الموضوعات ثم يربط بين كل درس مع
ما بعده وما قبله , ثم فى ختام السورة غالبا ما يلخص أهم دروس والعبر منها , ثم فى
بداية لبسورة التى تليها يوضح الصلة بين السورتين والرابط بينهما على نحو ترى
الكتاب العزيز فيه على غاية حسن الترتيب والنظم وجمال البيان وعظمة المتكلم به
سبحانه وتعالى .
وكذلك
الشيخ سعيد حوى رحمه الله فقد جعل المناسبات بين السور والآيات القرآنية والوحدة
الموضوعية فى القرآن الكريم أساسا ومرتكزا لتفسيره القيم.
ولا
عجب فى ذلك فكل من يتملى آيات الله وكلماته ويتدبر أسرارها بخشوع وحضور قلب وشفاء
نفس وإخلاص سريرة قثد يفتح الله عليه من معانيها بما لا يرى مثله الغافلون الذين
قست قلويهم وسيطرت عليها الشهوات والشبهات .
وقد
ذكر الإمام السيوطى رحمه الله فى كتابه ((الإتقان)) أن جماعة من العلماء أفردوا
المناسبات بالبحث والتأليف منهم : أبو جعفر بن الزبير وكتابه (( البرهان فى
مناسبات ترتيب سور القرآن )) والشيخ برهان الدين البقاعى وكتابه ((نظم الدرر فى
تناسب الآيات والسور )) وقد ألف فيه السيوطى نفسه كتابين هما ((أسرار التنزيل)) ,
و(( تناسق الدرر فى تناسب السور)). فجزى الله الجميع خير على جهودهم ورزقنا
الاستفادة مما خلفوه لنا من عام وتراث كريم .
أنواع
المناسبات بين السوروالآيات[10]
١
– المناسبات بين فاتحة السور وخاتمتها
ومن
أمثلة بداية سورة القصص وخاتمتها . فقد افتتحت السورة بقصة موسى عليه السلام
ونصرته وخروجه من وطنه إلى أن قال بعد اطمئنانه على نجاته ( قال رب بمآأنعمت على
فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [القصص] ثم ختمت السورة الكريمة بأمر النبى أن
لايكون ظهيرا للكافرين , قال تعالى :(وما كنت ترجواأن يلقى إليك الكتب إلاّرحمة من
ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين )[القصص] .
وكان
هذاالتوجيه الربانى للنبى بعد وعده بالعودة إلى مكة التى أخرج منها كما وعده
سبحانه أمّ موسى برد إليها فى بداية السور قال تعالى مخاطبا نبيه محمدا : (إن الذى
فرض عليك القرآن لرآدّك إلى معاد قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو فى ضلل مبين )
[القصص] .
٢
– المناسبات بين فاتحةالسورة وخاتمة السور التى قبلها
ومن
أمثلة ذلك افتتاح سورة البقرة (آلمذلك
الكتب لاريب فيه هدى للمتقين) [البقرة] الآيات
بعد ختام سورة الفاتحة الذى كان دعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم فكأن الله
تعالى يبين لنا أنّ الهداية للصراط المستقيم تكون بذلك الكتاب الذى لاريب فيه هدى
للمتقين .
أسباب
التناسب بين السور والآيات[11]
لقد
ذكر العلماء الذين كتبوا فى هذالباب أسباب كثيرة تفتضى التناسب بين آيلت الكتاب
العزيز وسوره ومن أهم هذه الأسباب ما ياى :
١
– التنظير , فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء وهو دأب أهل الفصاحة والبيان
, ومن أمثلة ذلك قوله تعالى فى سورة اللأنفال : (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن
فريقا من المؤمنين لكرهون يجدلونك فى الحق
بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)
[الأنفال].
قال
الإمام السيوطى رحمه الله فى بيان المناسبات بين الآيتين هنا : فليمض الرسول ص م
فى قسم الغنائم على كره من أصحابه كما مضى بالخروج بهم للعير والنفير على كره منهم
.
٢-
المقابلة والموازنة بين المتضادين من المعانى والصفات . وذلك كطريقة القرآن الكريم
المطردة فى ذكر صفات الجنة مقابلة لأوصاف النار , وذكر المؤمنين
المتقين لجانب ذكر الكافرين والمشركين , وهذا من طرائق القرآن التربوية
, وفيه تشويق لقارئ الكتاب أن يتحلى بلأوصاف الكريمة ويبتعد عن ضدها , ويرجو الجنة
وما فيها , ويتعرذ من النار وأهلها وما فيها , ويضدها تتميز الأشياء , وفى اليلة
الظلماء يفتقد البدر .
٣-
حسن التخلص , وهو انتقال مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلصه
اختلاسا بحيث لا يشعر السامع بالانتقال بين المعنيين لشدة التحامهما ببعضها . ومن
أمثلة ذلك , قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : (ولا تخزني يوم
تبعثون يوم لا ينفع مال
ولابنون إلاّمن أتى الله
بقلب سليم)[الشعراء] .
فتأمل
كيف انتقال الكلام من الدعاء والرجاء إلى أوصاف يوم البعث والجزاءالذى هو المقصد
للنجاة وبأسلوب سهل جميل وكأن القارئ لم يغادر ساحة الدعاء بعد .
٤-
حسن الطلب . ومعناه أن يقدم بين يدي ما يريد الوصول إليه وسيلة له تناسب غرضه وهذا
من أدب الخطاب , ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :(الحمد لله رب العالمين
الرحمن الرحيم ملك يوم الدين
إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط
المستقيم)[الفاتحة] .
ألا
ترى كيف يعلمنا الله تعلى الأدب مع ذاته وحسن دعائه ورجائه حيث قدم حمده والثناء
عليه بين يدي الطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم , وهل فى دنيا الإيمان
والكمال أجمل من الأدب مع الله الخالق المبدع جل جلاله.
مصادرالبحث :
١. الإتقان فى علوم القرآن , الحافظ جلال الدين السيوطى , الجزءالثالث , المكتبة
العصرية .
٢.بحوث منهجية فى علوم القرآن الكريم , موسى إبراهيم الإبراهيم , دار عمّار .
٣. علوم القرآن بين البرهان والإتقان , الدكتور حازم سعيد حيدر , مكتبة دار الزمان
٤. مباحث فى علوم القرآن , مناع القطان , مكتبة وهبة
٥. بدر الدين الزركشى , البرهان فى علوم القرآن
[1] هو إبراهيم بن عمر
برهان الدين البقاعى , منسوب إلى البقاع , من بلاد سوريا , مؤرخ أديب توفىّ سنة
885 . البدر الطالع 1 : 19
0 komentar:
Posting Komentar