المقدمة
الحمد لله المتوحد بالقدم والإلهية،
المتفرد بالدوام و الربوبية، ذى البرهان المنير، والملك الكبير، الذى فطر الخلق
بقدرته، وصرفهم بحكمته على سابق علمه ومشيئته، وتقلب كل...[1] فى
مواهبه وإحسانه، أنشأ الأشياء كيف شاء، لايسأل عمّا يفعل وهم يسألون[2]، لما
يتمكن منهم السفه والحكمة ليزجروا بالسؤال ثم بالجزاء عن السفه، ويرغبوا فى
الحكمة.[3]
أن الله تعالى خلق البشر على طبائع
تميل إلى الملاذ الحاضرة وتدعو صاحبها إليه، وتزيّنها[4] فى
عينه بما ركّب فيه من الشهوات إلى ما إليه مثل طبعه، وهي تنفر عما فيه ألمه وتعبه،
فيصير طبعه أحد أعداء عقله فى التحسين والتقبيح، وإن كان ما حسنه العقل وقبحه ليس
له زوال ولا تغيّر من حال إلى حال، وما حسنته الطبيعة وقبحته[5] هو فى
حد الانقلاب والتغير من[6] حال
إلى حال بالرياضة والقيام على ذلك بالكف عما ألفه، والصرف إلى ما ينفر عنه يحسن
القيام عليه، على ما يحتمل الطبع قبوله نحو المعروف من أمر الطيور والبهائم، إنها
بطبعها تنفر عما أريد بها من أنواع منافع البشر، ثم يحسن قيام أهل البصر بذلك
ليصير مما طبع عليه الميل إليه كالمستوحش، ومما طبع على النفار عنه كالمطبوع عليه.[7]
أن اختلاف المذاهب الاعتقادية ليس فى
لب العقيدة، ولكنه فى مسائل فلسفية لاتمس لب الاعتقاد، وهو الوحدانية والإيمان
بالرسل واليوم الاخر والملائكة وأن ما جاء به النبى صلّى الله عليه وسلّم حق
لامجال للشك فيه، ومسائل الاختلاف تدور حول الجبر والاختيار، ومرتكب الكبيرة
وحكمه، وكون القران مخلوقا أو غير مخلوق، وقد انقسمت المذاهب القديمة إلى جبرية
ومعتزل، ومرجئة، وأشاعرة وماتريدية وحنابلة.[8]
البحث
أ. تعريف الجبرية.
الجبرية هو مذهب الجهم بن صفوان الذي
قال بأن الافعال مقدورة للربّ وليس للعبد والمؤثر فيه قدرة الربّ وليس العبد، وقد
تسمّى الجبرية قدرية لأنّهم غلو فى إثبات القدر كما يسمّى الذين لايجزمون بشيئ من
الوعد والوعيد بل يغلون فى إرجاء كلّ أمر مرجئة.
والعبد عندهم ليس بفاعل بالاختيار بل
هو مجبور و غير ميسر وحركته كحركة المرتعش أو كالميت أدرج داخل الأكفان، وهذا كلام
باطل بيّن البطلان، وهو الذى وجهها إلى ما يريد مع علم الله بها مسبقا بوقوعها.
فالقدرية غلوا فى نفي القدر وكانت بدعوتهم ردة فعل للجبرية مثبتي القدر فعالجوا
هذه البدعة ببدعة أشد فالله المستعان.[9]
الجبرية : أصل قولهم من الجهم[10] بن
صفوان، كما تقدّم وأن فعل العبد بمنزلة طول و لونه، و هم عكس القدرية نفاة القدر،
فإنّ القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه، كما سمّيت المرجئة لنفيهم
الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم، وقد تسمّى
الجبرية (قدرية) لأنهم غلوا فى إثبات القدر، كما يسمّى الذين لايجزمون بشيئ من
الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب،
كما لايجزم بعقوبة من لم يتب، و كما لايجزم لمعيّن وكانت المرجئة الأولى يرجؤون
عثمان وعليّا و لايشهدون بإيمان و لا كفر.[11]
زعمت الجبرية، رئيسهم الجهم بن صفوان
الترمذى[12] : أن
التدبير فى أفعال الخلق كلّها لله تعالى، وهي كلّها اضطرارية، كحركات المرتعش،
والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز ! وهى على حسب ما يضاف
الشيئ إلى محله دون ما يضاف إلى محصّله ![13]
قال أيضا : بنفي الصفات عن الله،
وأنه لايجوز أن يوصف بصفة يصح أن يتصف بها أحد من خلقه لأن هذا يوهم التشبيه فلا
يقال عالم قادر ومتكلم.
وأخذ هذا الكلام عن الجعد بن درهم.
وأنه نفى عن الله الصفات التى تؤدى إلى تشبيهه بمخلوقاته. وأتمت صفة الفعل والخلق
فقط ولا يصح أن يتصف المخلوقات بهاتين الصفتين.إذا انتفى عن المخلوقات هاتان
الصفاتان لايكون مختارين بل مجبورين فى أفعالهم، وهذا أسس قولهم بالخبر.[14]
قال جهم بن صفوان: إنّ الجنة
والنار تبديان، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ امَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَات
ِكَانَت لَهُم جَنَّاتُ الفِردَوسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لَايَبغُونَ عَنهَا
حِوَلًا (107- 108 :18 )[15]
أيضا ذهب الجهم أن نعيم الجنة وعذاب
أهل النار يفنيان، وذلك لأن إثبات البقاء الدائم للنعيم والعذاب الاخرين فيه
مشاركة لله واتصافه بالبقاء. وبما دون مشاركة شيئ من المخلوقات فى صفة من صفاته
محال، فبقاء نعيم الاخرة وعذابها محال.[16]
قالت (المعتزلة) و (الخوارج) و
(المرجئة) و (الروافض) و (المجبرة): إنّ كلام الله تعالى محدث و (جهم) و (بشر
المريسى) من جملة (المجبرة). بعضهم قالوا : جسم، وبعضهم قالوا: عرض وهو قائم الله
تعالى باللوح المحفوظ، بعضهم قالوا: قائم الله تعالى، وبعضهم قالوا: باللوح
المحفوظ، وإذا أُخذ هؤلاء ببيان مذهبهم يتحيّرون فى ذلك ويعجزون عن البيان، ولهذا
اختلفوا فيما بينهم[17].
ونفى صفات الكلام لله، لأن الكلام من
صفات المخلوقات. والكلام يلزم أن تكون له الة الكلام، فيكون مشابها للحوادث ولما
كان القران كلاما وهو مضاف إلى الله. فلا تكون إضافة له إلا على معنى أنه مخلوق لا
كلام، لأن هذا يؤدى إلى المشابهة المستحيلة عليه، إذن يكون القران مخلوق الله.[18]
أسس هذا المذهب أيضا الجعد بن درهم،
وهو مولى لبنى حكام الساكن فى دمشق عاش فى بيئة النصرانية، ولما نشر مذهبه هناك
طرد أمير بنى أمية وهرب إلى الكوفة ولقيه هناك جهم بن صفوان.
ب. أراء الجعد و جهم
أراء الجعد:[19]
1. قوله بخلق القران وأنه أول من
تكلم به من أمة محمد بدمشق.
2. أنه قال بالتعطيل، وأنه أول من
حفظ عنه هذه المقالة فى الإسلام.
3. أنه يقول بالقدر: إذ أن مروان
تعلم منه (القول بخلق القران والقدر).
أراء جهم بن صفوان:[20]
1. زعمه أن الجنة والنار تفنيان،
وأنه لا شيئ من الأشياء يكون خالدا والخلود المذكور فى القران هو طول المكث، وبعد
الفناء، لامطلق البقاء.
2. و زعمه أن الإيمان هو المعرفة،
وأن الكفر والجهل على مقتضى ظاهر مذهبه يكون اليهود الّذين عرّفوا أوصاف النبى
صلّى الله عليه وسلّم مؤمنين، وكذلك المشركين الّذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم،
ولكن هو يقول إنّ الأذعان يتبع المعرفة، ليست المعرفة التى تعتبر إيمانا هى مجرد
التصور، بل إنها المعرفة القوية التى توجب التصديق والإذعان.
3. وزعمه أن كلام الله حادث وليس
بقديم وقد انبنى على ذلك القول بخلق القران فى نظر بعض العلماء وإن كان للمسألة
نظر اخر.
4. ولم يصف االله تعالى بأنه شيئ،
ولا بأنه حى، و لا بالعلم، وقال لا اصفه بوصف يجوز اطلاقه غلى الحوادث.
5. وقد نفى رؤية الله تعالى يوم
القيامة.
أن تلك النحلة ابتدأت تظهر فى عصر الصحابة، بل كانت تجرى على ألسنة
المشركين كما ذكر القران الكريم فيما تلون أنفا، ولكن الذى امتاز به العصر الأموى
بالنسبة لها أن صارت نحلة، و مذهبا له ناس يعتنقونه ويدعون إليه، ويدرسونه
ويبينونه للناس.
وقد قالوا إنّ أوّل من فعل ذلك بعض
اليهود فقد علموه بعض المسلمين و هؤلاء أخذوا ينشرونه، ويقال إنّ أوّل من دعا إلى
هذه النحلة من المسلمين "الجعد بن درهم" و قد تلقاه عن اليهود بالشام، و
نشره بين الناس بالبصرة ثمّ تلقاه عنه "الجهم بن صفوان" وقد جاء فى سرح
العيون فى الكلام على الجعد بن درهم.[21]
(وبين التشبيه والتعطيل) تقدّم أنّ
سبحانه وتعالى يحبّ[22] أن
يوصف بما وصف به نفسه. وبما وصف به رسوله، من غير تشبيه، فلا يقال سمع كما سمعنا،
و لا بصر كبصرنا، ونحوه، و من غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه
به أعرف الناس به: رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدّم الكلام فى هذا المعنى.
ونظير هذا القول قوله فيما تقدّم، ومن
لم يتوقّ النفى والتشبيه،زلّ و لم يصب التنزيه.وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى
(ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير) الشورى: اا. فقوله: (ليس كمثله شيئ) ردّ على
المشبهة، وقوله (وهو السميع البصير) ردّ على المعطّلة.
(وبين الجبر والقدر) تقدّم الكلام أيضا
على هذا المعنى، و أنّ العبد غير مجبور على أفعاله و أقواله، وأنها (ليست) بمنزلة
حركات المرتعش، و حركات الأشجار بالرياح و غيرها، و ليست مخلوقا للعبد، بل هى فعل
العبد و كسبه، وخلق الله تعالى.[23]
فكلّ دليل صحيح يقيمه الجبريّ، فإنّما
يدل على أنّ الله خالق كلّ شيئ، وأنه على كلّ شيئ قدير. وأن أفعال العباد من جملة
مخلوقاته، وأنّه ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل
فى الحقيقة و لا مريدٍ و لا مختار، و أن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش،
وهبوب الرياح، وحركات الأشجار.
فممّا استدلّت[24] به
الجبرية، قوله تعالى: وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ رَ مَى.
الأنفال: 17 . فنفى الله عن نبيه الرمى، و أثبته لنفسه سبحانه، فدلّ على أنه
لاصُنعَ للعبد، قالوا: والجزاء غير مرتّب على الأعمال، بدليل قوله صلّى الله عليه
وسلّم: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قالوا: وَ لاَ أَنْتَ يَا رَسُوْلَ
اللَّهِ؟ قال: وَ لاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
وَ فَضْلٍ.[25]
الاستنباط
الجبرية هو مذهب الجهم بن صفوان الذى
قال بأن الأفعال مقدورة للرب وليس للعبد، وقد تسمّى الجبرية قدرية لأنهم غلوا فى
إثبات القدر كما يسمّى الذين لايجزمون بشيئ من الوعد والوعيد بل يغلون فى إرجاء
كلّ أمر مرجئة.
والعبد عندهم ليس بفاعل بالاختيار بل هو مجبور و غير ميسر وحركته كحركة
المرتعش أو كالميت أدرج داخل الأكفان، وهذا كلام باطل بيّن البطلان، وهو الذى
وجهها إلى ما يريد مع علم الله بها مسبقا بوقوعها. فالقدرية غلوا فى نفي القدر
وكانت بدعوتهم ردة فعل للجبرية مثبتي القدر فعالجوا هذه البدعة ببدعة أشد فالله
المستعان.
فعلماء أهل السنة والجماعة يعتقدون أن
مذهب الجبرية ضلال ومضلّ.
مصادر البحث
- أبى عبد الله عامر عبد الله
فالح، 1417، معجم ألفاظ العقيدة، الرياض، مكتبة العبيكان.
- للإمام أبى منصور الماتريدى،
كتاب التوحيد، دار الجامعات المصرية.
- أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد
الكريم اليزدوى، 1383، كتاب أصول الدين، القاهرة، دار الخياء الكتب العربية.
- الإمام القاضى على بن على بن
محمد بن أبى العزّ الدمشقى، 1418، شرح العقيدة الطحاوية، الرياض، دار عالم الكتب.
- محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب
الإسلامية، الجزء الأول، دار الفكر العربى.
- الدكتور أمل فتح الله زركشى،
2011، دراسة فى علم الكلام، فونوروكو، جامعة دار السلام للطباعة والنشر.
0 komentar:
Posting Komentar